في حادثة مروعة تكشف عن خرق فاضح للقوانين الدولية والقيم الإنسانية، اعتُقل الشاعر المصري المعارض عبد الرحمن يوسف القرضاوي في لبنان وتم ترحيله إلى دولة الإمارات العربية المتحدة. هذه الواقعة تُعيد للأذهان صورة تجارة العبيد القديمة، حيث يُباع الإنسان ويُشترى مقابل مصالح سياسية ومالية.
عبد الرحمن يوسف، المعروف بمواقفه الجريئة ضد الأنظمة الاستبدادية، عاش حياة المنفى بعد تخليه عن الجنسية المصرية بسبب الانقلاب العسكري في 2013. وبعد حصوله على الجنسية التركية، ظنَّ أنه وجد ملاذًا آمنًا. إلا أن اعتقاله في لبنان وترحيله إلى الإمارات يُبرز كيف أصبحت الدول تُتاجر بالأفراد لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية.
جاءت هذه الخطوة وسط فراغ سياسي حاد في لبنان، حيث تسعى القوى الدولية والإقليمية إلى ترتيب المشهد السياسي اللبناني. وفقًا لتقرير نشرته صحيفة “ميدل إيست آي”، فإن الولايات المتحدة ضغطت على لبنان لتسهيل انتخاب قائد الجيش اللبناني، جوزيف عون، رئيسًا للبلاد. في المقابل، تعهَّدت السعودية بتقديم مئات الملايين من الدولارات لإعادة إعمار لبنان، شريطة تحقيق هذا الهدف السياسي. المبعوث الأمريكي عاموس هوكشتاين، وهو شخصية مؤثرة في صياغة السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، زار الرياض وبيروت لتأمين هذا الاتفاق.
في هذا السياق، يبدو أن ترحيل القرضاوي كان جزءًا من صفقة أوسع، حيث تعهَّدت الإمارات بالمساهمة في إعادة الإعمار، مما دفع لبنان إلى التغاضي عن مبادئ سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.
ما يزيد من الغموض هو الصمت التركي تجاه اعتقال أحد مواطنيها. تشير التحليلات إلى وجود صفقة بين تركيا والإمارات، حيث تغض تركيا الطرف عن قضية القرضاوي مقابل تحقيق مكاسب سياسية في سوريا، التي تشهد تحولًا جذريًا في مواقفها الإقليمية.
كما أن السعودية، التي طالما وُصفت بأنها قوة إقليمية نافذة، تلعب دورًا محوريًا في هذا المشهد، مدعومة بتفاهم أمريكي-سعودي حول ضرورة إعادة هيكلة النظام السياسي اللبناني واستعادة ما يعتبرونه “سيادة لبنان”.
إن ترحيل عبد الرحمن يوسف القرضاوي إلى الإمارات لمحاكمته بتهم واهية مثل “التحريض” هو انتهاك صريح للقانون الدولي. فالشخص الذي يتمتع بوضع لاجئ سياسي يجب أن يُحترم حقه في الحماية من الإعادة القسرية. لبنان، الذي يفترض أن يكون ملاذًا آمنًا، اختار بدلاً من ذلك أن يُسلم أحد المقيمين على أراضيه لدولة لا تمتلك أي صلة قانونية به.
هذه الواقعة ليست إلا مثالاً صارخًا على كيفية استغلال البشر كأوراق ضغط في السياسات الدولية. فالإنسانية تُداس تحت أقدام المصالح المالية والسياسية. عبد الرحمن يوسف القرضاوي، الذي يمثل صوتًا حرًا ومعارضًا، أصبح ضحية لنظام عالمي يُعيد إنتاج تجارة العبيد بصيغتها الحديثة، حيث تُباع الحريات والحقوق مقابل المال والسلطة.
في التاريخ، كانت تجارة العبيد وسيلة رئيسية لتحقيق المصالح الاقتصادية والسياسية للدول الاستعمارية. فعلى سبيل المثال، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، شحنت القوى الأوروبية ملايين الأفارقة إلى الأمريكتين للعمل في ظروف شديدة القسوة. ولتبرير هذه الجرائم، قال الفيلسوف الفرنسي فولتير: “تُرتكب أبشع الجرائم تحت ستار القانون والدين”.
وفي العصر الحديث، أشار نيلسون مانديلا إلى استمرارية القمع بقوله: “الظلم في أي مكان هو تهديد للعدالة في كل مكان”. هذه الأقوال تُبرز التشابه بين تجارة العبيد القديمة وأشكال الاستغلال الحديثة التي نراها اليوم.
ما حدث لعبد الرحمن يوسف القرضاوي هو جريمة تُدينها كل القيم الإنسانية. إنه واجب على كل المدافعين عن حقوق الإنسان والمنظمات الدولية أن تُصعّد هذه القضية وتُحاسب الأطراف المسؤولة عنها. كما أن الشعوب العربية، التي كانت يومًا ما ضحية للاستبداد، يجب أن تقف في وجه هذا الشكل الجديد من استعباد الإنسان، حتى لا تتحول حقوقنا إلى سلعة في مزادات السياسة الدولية.
لا تعليق