يُعد كتاب الماجريات للدكتور إبراهيم السكران (فك الله أسره) من المؤلفات الفكرية التي تجمع بين العمق التحليلي والحس النقدي تجاه ما يعتري العقل المسلم من تشوش وتشتت في زمن طغت فيه الأحداث والبيانات على التفكير والتأمل. والكتاب، وإن بدا في ظاهره رصداً لظاهرة التعلق المفرط بمواقع التواصل والإعلام، إلا أنه في جوهره دعوة إلى استعادة المبادرة الفكرية ومقاومة الاستلاب المعرفي.
الفصل الأول: فقه الواقع أم الغرق فيه؟
استهل الدكتور السكران كتابه بمقارنة دقيقة بين “فقه الواقع” باعتباره مدخلاً لفهم الأحداث وتحليلها، وبين “الغرق في الواقع”، حيث يفقد الإنسان بوصلته بين زحمة المجريات السياسية والتعاطي العاطفي مع الأخبار. كما ميز بين نوعين من المتابعة: الأولى “متابعة متفرجة” تستهلك الأخبار دون أثر، والثانية “متابعة منتجة” تسعى لفهم السياق والتفاعل الواعي مع ما يجري من حولنا.
الفصل الثاني: الماجريات الشبكية وإدمان التصفح
في هذا الفصل، سلط الدكتور الضوء على ما اصطلح عليه بـ”الماجريات الشبكية”، وعرّج على ظاهرة الإدمان الرقمي الذي أصبح ينهش أوقات الناس وعقولهم، مبرزاً كيف تحولت مواقع التواصل إلى ساحة لاستهلاك الزمن والمعرفة في آن. استعمل الدكتور عدداً من المفاهيم المبتكرة مثل:
العمى الزمني: فقدان الإحساس بالوقت أثناء التصفح.
إدمان البيانات: رغبة مستمرة في ملاحقة المستجدات دون تمحيص.
تسلل التصفح: حين يسرقنا التصفح دون نية مسبقة.
النبأ المتدحرج: كثافة الأخبار وتتابعها دون فسحة للتأمل.
المهاترات الشبكية: الجدل العقيم الذي تفرزه النقاشات الرقمية.
يُظهر هذا الفصل براعة الدكتور في تفكيك الظاهرة الرقمية بلغة نقدية محكمة، محذراً من أثرها في تمييع الوعي وإضعاف المشروع الفكري للفرد.
الفصل الثالث: الماجريات السياسية والنماذج الفكرية
خصص الدكتور إبراهيم الجزء الأكبر من الكتاب لتأملات عميقة حول “الماجريات السياسية”، من خلال استعراض نماذج فكرية عربية تعاملت مع هذه الظاهرة بطريقة مختلفة:
الشيخ البشير الإبراهيمي: طرح نموذجاً ثنائياً يميز بين “لباب السياسة” و”قشورها”، محذراً من الانجرار إلى صخبها دون وعي، ومبرزاً أهمية التركيز على البناء الحقيقي بعيداً عن لصوص العقل الذين يلهون الناس بالشعارات.
مالك بن نبي: قدّم نموذج “الدروشة السياسية”، وشرح الدكتور أركان محيطه التحليلي المكون من أربعة عناصر: المراحل التاريخية، سؤال الاستعمار، سؤال الحضارة، والأدوات التصنيفية لتحليل الواقع.
أبو الحسن الندوي: عرض الدكتور نموذج التفسير السياسي للإسلام الذي قدّمه الندوي، مبيناً أثره في تأطير الوعي الإسلامي المعاصر.
عبد الوهاب المسيري: تناول السكران تجربة المسيري في التأليف الموسوعي، متتبعاً مسيرته من الماركسية إلى الفرانكفورتية، ثم إلى تبنيه للخط الإسلامي، مع نقده لمفهوم العلمانية الجزئية.
فريد الأنصاري: أنهى الدكتور استعراض النماذج بنموذج “التضخم السياسي” لدى الدكتور الأنصاري، مسلطاً الضوء على مشروعه الدعوي الإصلاحي كمواجهة فكرية للماجريات.
خاتمة الكتاب: قراءة نقدية وخلاصات
اختتم الدكتور السكران الكتاب بتعقيبات تحليلية على النماذج السابقة، مع إبراز نقاط القوة والخلل في كل طرح. كانت خاتمته دعوة إلى تجاوز ضجيج الماجريات نحو بناء وعي فكري صلب يتعامل مع الواقع من موقع التأثير لا التلقي.
تأمل خاص: حضور المغرب العربي في فكر السكران
ما شدّني شخصياً في الكتاب هو الحضور اللافت لنماذج فكرية مغاربية مثل الشيخ البشير الإبراهيمي، والمفكر مالك بن نبي، والدكتور فريد الأنصاري، مما يعكس تقديراً عالياً من الدكتور إبراهيم لإسهامات مفكري المغرب العربي في بناء الوعي الإسلامي المعاصر، وهو تقدير يُحسب له في وقت تكاد تُهمّش فيه هذه النماذج في كثير من السرديات الفكرية.


لا تعليق