حين أمسكت بكتاب «من أسرار القرآن» للدكتور مصطفى محمود رحمه الله، كنت أظنه مجرد وقفة تفسيرية أو خواطر عابرة على بعض الآيات. لكنني سرعان ما أدركت أنني أمام تجربة تختلف تمامًا عن كتب التفسير المعتادة، وأمام قلم يجيد فتح النوافذ الفكرية أكثر مما يهوى غلقها بالنقول والتقعيد.
فالكتاب – كما أدركته وأنا أطوي صفحاته – ليس تفسيرا فقهيا أو لغويا، ولا هو بحث في أسباب النزول أو وجوه الإعراب، لكنه رحلة تأملية يدعو فيها الدكتور مصطفى محمود القارئ إلى النظر في السياق الكوني الذي يجعل الإنسان جزءًا من حكمة إلهية واسعة لا يرى منها إلا أطرافًا متناثرة.
التفسير عند مصطفى محمود: تعبير عن دهشة قلب قبل أن يكون شرحًا لمعنى
ما يميز مصطفى محمود في هذا الكتاب ليس المعلومات، بل الدهشة.
دهشة الإنسان الذي يقف أمام الآية كما يقف المسافر أمام أفق جديد لا يعرف أين ينتهي، لكنه مع ذلك يشعر بالأمان وهو يتأمل امتداداته.
لقد كان يقرأ القرآن بعين المتسائل لا بعين المكتفي، وبقلب الباحث الذي يعرف أن كل آية تحمل معنى ظاهرا للناس، ومعاني أخرى تفتح أبوابها فقط لمن يطرقها بتواضع.
ومع كل تأمل يقدمه، لا يفرض عليك رأيًا، ولا يضعك تحت ثقل خطاب الواعظ، بل يأخذ بيدك ليراك ما الذي يمكن أن تعنيه الآية في عالمك أنت:
في ذاتك، في وعيك، في صراعاتك اليومية، وفي فهمك لوجودك.
بين العلم والإيمان… تلك المنطقة التي أحبها مصطفى محمود
يستوطن مصطفى محمود في كتابه تلك المنطقة الفاصلة بين العلم والروح، بين الفكر والخشوع، بين التحليل العقلي والانبهار بالغيب.
فكأنه يريد أن يقول للقارئ:
ليس المطلوب أن تفهم القرآن كله، بل أن تتأمله حتى ينفتح لك ما يناسبك من أسراره.
وفي كل مرة يعود القارئ من تأملاته يشعر أن الآية ذاتها التي يعرفها منذ سنوات لم يسبق أن رآها بهذه الإضاءة، وأن القرآن حيّ، يتجدد عطاؤه بتجدد الوعي.
ما خرجت به شخصيًا من الكتاب
وأنا أقرأ «من أسرار القرآن»، لم كنتُ أبحث عن تفسير، ولا عن معلومات جديدة، بل كنت أبحث – من حيث لا أشعر – عن خطاب يصل القلب قبل العقل. وفي هذا بالضبط تفوّق مصطفى محمود:
جعلني أعيد النظر في كثير من الآيات التي ظننا أننا نفهمها من كثرة ترديدها.
ذكرني أن القرآن ليس كتابًا للثقافة العامة، بل كتاب هداية تجده كلما اقتربت منه بصدق.
أعاد للمفاهيم القرآنية حرارةً افتقدتها في نصوص جافة تؤدي المعنى ولا تصله.
منحني شعورًا بأن كل آية تحمل سؤالًا جديدًا يصلح لمرحلة جديدة من حياتك.
لقد كان هذا الكتاب بالنسبة إليّ رحلة شخصية أكثر من كونه قراءة فكرية؛ رحلة جعلتني أرى أن القرآن لا يحتاج إلى من يدافع عنه، بل يحتاج إلى من يقترب منه.
لماذا أفتتح سلسلة «قرأت لك» بمصطفى محمود؟
لأن مصطفى محمود – برأيي – من القلائل الذين يعرفون كيف يكتبون عن القرآن من الداخل، من تجربة ذاتية، من تماس مباشر بين روح الإنسان وكلام ربه.
ولأن كتاباته تمثل مدرسة فريدة:
مدرسة لا تكتفي بالشرح، ولا تكتفي بالتأمل، بل تمزج بين العلم والفلسفة والتصوف والبحث الوجودي، دون أن تتخلى عن بساطة اللغة ووضوح العبارة.
ولهذا يبدو «من أسرار القرآن» افتتاحًا مناسبًا لهذه السلسلة…
سلسلة تهدف إلى مشاركة القراء تجارب قرائية لا ملخصات سطحية، وتقديم الكتب من زاوية التأثير الذي تتركه في النفس.


ما شاء الله دكتور سعيد