لمّا أنهيت قراءة «من أسرار القرآن» وكتبت عنه في السلسلة، شعرت أنني اقتربت قليلًا من عالم د. مصطفى محمود، ذلك العالم الذي يمزج بين الطب والفلسفة والتدين والتساؤل الوجودي في آن واحد. كان منطقيًا أن أبحث عن كتابٍ آخر يكمّل هذه الرحلة، لكن هذه المرة من زاوية الواقع لا من زاوية التفسير، فوقع اختياري على «عصر القرود». منذ العنوان أدركت أنني لست مقبلًا على قراءة «لطيفة» بقدر ما أنا أمام مرآة حادة لعصر نعيش تفاصيله كل يوم.
كيف وصلت إلى «عصر القرود»؟
العنوان استفزّ فيّ شيئًا من الفضول وشيئًا من الدفاع: هل نعيش فعلًا «عصر القرود» كما يصفه المؤلف، أم أن في الأمر شيئًا من المبالغة البلاغية لجذب القارئ؟ حين أمسكت بالكتاب اكتشفت أنه ليس رواية، بل مجموعة من المقالات الفكرية القصيرة كتبها مصطفى محمود في سياق زمن بدأ يعرف الانفجار الإعلامي والتقني، ويتساءل فيها عن الإنسان والقيم والحرية والحب وسط هذا التغيّر المتسارع.
ما شدّني أن هذه المقالات لا تنطلق من برج عاجي، بل من ملامسة مباشرة لحياة الناس: حياتنا اليومية، علاقاتنا، المدن التي نعيش فيها، الضغوط التي نخضع لها، وطريقة استهلاكنا لكل شيء من الطعام إلى المشاعر. كنت أقرأ وأتخيل أن هذه النصوص كتبت أمس، لا قبل عقود؛ وهذا أول ما جعل الكتاب قريبًا مني ومن اهتمامي بقراءة تحولات المجتمع والفضاء الرقمي.
صدمة الواقع في زمن التقنية
مع التقدّم في القراءة بدأت أرى بوضوح صورة الإنسان الذي يرسمه الكتاب: إنسان يمتلك أدوات أكثر من أي وقت مضى، لكنه في المقابل أقل رحمة واستقرارًا وصدقًا مع نفسه ومع الآخرين. يصف مصطفى محمود عالمًا يكبر فيه حجم المدن ويزداد فيه عدد السيارات ووسائل الترفيه، لكن تتآكل فيه «السكينة» و«الطمأنينة» و«البساطة» التي عرفتها الأجيال السابقة.
كلما مرّ بمشهد من مشاهد عصره، استحضرت مشاهد من عصرنا: الهاتف الذكي الذي لا يفارق أيدينا، القلق من تفويت «آخر خبر» أو «آخر ترند»، الإحساس الدائم بأننا مشغولون رغم أننا لا ننجز ما يكفي في عمق حياتنا. شعرت أن الكتاب يضع يده على جرح ما زال ينزف: جرح التقدم التقني حين ينفصل عن أي مشروع لتربية الإنسان داخليًا. وهنا بالتحديد بدأت أفهم أكثر دلالة «عصر القرود» في عنوانه؛ ليس المقصود الإهانة، بل التحذير من أن نفقد ما يجعلنا بشرًا في خضم الركض وراء الأدوات.
الحب والعلاقات كمرآة لامتحان الإنسان
إحدى الفقرات التي بقيت عالقة في ذهني هي تلك التي يتناول فيها مصطفى محمود قضية الحب والعلاقات بين الرجل والمرأة. يفرّق بوضوح بين حب ناضج يقوم على المودة والرحمة والمسؤولية، وبين حب سطحي متقلب، محكوم بالشهوة والانفعال اللحظي، وفي رأيه أن هذا التحوّل من النوع الأول إلى الثاني هو أحد أبرز أعراض «عصر القرود».
وأنا أقرأ، لم أستطع أن أتجاهل ما نراه اليوم من تحويل العلاقات العاطفية إلى «محتوى» يُنشر ويُقيّم ويُستهلك: حفلات الخطوبة والزفاف المصوّرة بعناية، تفاصيل الحياة الزوجية التي تتحول إلى مادة للمقارنة والتعليق، الضغط الكامن خلف الصورة المثالية التي تُعرض على المنصات. شعرت أن الكاتب يضع أمامي سؤالًا واضحًا: كم بقي من «المودة والرحمة» في علاقة تُدار بمنطق الصورة واللايك والشير؟ هذا السؤال وحده جعل قراءتي للكتاب تتجاوز المتعة الفكرية إلى مراجعة هادئة لبعض المسلّمات في طريقة نظرنا للحب والزواج اليوم.
بين «من أسرار القرآن» و«عصر القرود»
وأنا أتنقل بين صفحات «عصر القرود» كنت أسترجع من وقت لآخر لحظات قراءتي لكتاب «من أسرار القرآن». في الكتاب الأول، كان مصطفى محمود يغوص في النص القرآني بحثًا عن الحكمة من الخلق والابتلاء والشر والزمن والعدل، داعيًا القارئ إلى أن يطرح الأسئلة بدل أن يكتفي بحفظ الإجابات الجاهزة. في «عصر القرود» بدا لي أنه يخرج من عالم النص إلى عالم الناس، ليختبر هذه الحكم القرآنية في واقع العلاقات والقيم والاقتصاد والإعلام.
هذا الربط مهم بالنسبة لي في هذه السلسلة؛ لأنني لا أقرأ كتب مصطفى محمود كعناوين منفصلة، بل كمشروع واحد يحاول أن يجيب عن سؤال كبير: كيف يمكن أن نكون مؤمنين وواعين بزماننا في آن واحد؟ من أسرار القرآن إلى عصر القرود يبدو لي أن الرجل يمشي في الاتجاه نفسه: من فهم كلام الله إلى نقد حال الإنسان، ومن التأمل في الآيات إلى مساءلة الواقع. هذا الخيط هو ما أحاول أن أتابعه وأكتبه في «سلسلة قراءاتي لمؤلفات د. مصطفى محمود».
ماذا أضافت لي هذه القراءة؟
خرجت من «عصر القرود» بعدة مشاعر وأفكار متداخلة. أولًا، درجة من القلق الإيجابي: شعور بأن ما نعيشه اليوم لا ينبغي أن يُؤخذ كقدرٍ لا يُناقش، بل كخيار يمكن أن نتعامل معه بوعي مختلف؛ التكنولوجيا ليست شرًا في ذاتها، لكنها قد تتحول إلى أداة تسطيح إن فقدنا البوصلة القيمية. ثانيًا، ازداد انتباهي لتفاصيل استخدامي اليومي للأجهزة والمنصات: متى أكون المستخدم، ومتى أتحوّل دون أن أشعر إلى «مستهلك» يُساق بمنطق الخوارزميات وثقافة القطيع؟
أما على مستوى السلسلة، فقد أكد لي هذا الكتاب أن مواصلة قراءة مؤلفات مصطفى محمود ليست مجرد حنينٍ إلى كاتب محبوب، بل محاولة جادة لاختبار أفكاره في زمننا الرقمي. في التدوينات المقبلة من «سلسلة قراءاتي لمؤلفات د. مصطفى محمود» سأنتقل إلى كتب أخرى له، أتابع فيها هذا الخيط بين الإيمان والإنسان والزمان، وأحاول أن أشارك القارئ كيف تساعدنا هذه النصوص القديمة–الجديدة على طرح أسئلتنا الحديثة دون أن نفقد جذورنا.


لا تعليق