قرأت مؤخرًا كتاب العبرات للأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي، ذلك الكاتب الذي سكن القلوب قبل العقول، والذي استطاع أن ينسج من الكلمات عواطف حيّة تنبض بين السطور.
منذ الصفحات الأولى وجدت نفسي أمام أسلوب يأسر، وبيان يأخذ بزمام القلب إلى عوالم من الحزن النبيل، والرحمة العميقة، والإنسانية الصادقة.
لطالما كنت مولعًا بأسلوب المنفلوطي، فهو لا يكتب ليصف فحسب، بل ليشعر، وليُشعِر، ويكتب بلسان القلب لا اللسان وحده، ويُحيل اللغة إلى كائن حيّ يتنفس الجمال والألم في آن واحد.
في العبرات، شعرت أني لا أقرأ قصصًا قصيرة، بل أعيش تجارب إنسانية مكثفة، تختزل المأساة في صفحات قليلة، وتفتح الباب لتأمل طويل في معنى الرحمة، والخذلان، والفقد، والوفاء.
من أجمل ما يميز هذا الكتاب أنه لا يقدّم الحزن على أنه نهاية، بل على أنه حالة إنسانية راقية تذكّرنا بما بقي من الخير فينا، فالمنفلوطي يكتب عن البكاء لا ليدعو إليه، بل ليُطهّر به أرواحنا من قسوة الحياة، وتلك هي العبرة الأولى التي التقطتها من بين العبرات: أن الحزن أحيانًا طريق للصفاء.
أما أسلوب المنفلوطي، فذلك عالم قائم بذاته.
بساطته ليست ضعفًا، بل قوة ناعمة تمكّنه من الوصول إلى أعمق ما في النفس من مشاعر دون عناء، عباراته قصيرة لكنها مشحونة بالإيحاء، جُمَلُه تتهادى في سلاسة لكنها تُحدث أثرًا لا يُمحى. وهو في هذا يجسد المعادلة الصعبة: أن تكون بسيطًا دون أن تكون سطحيًا، وعميقًا دون أن تكون متكلفًا.
وفي زمن كثر فيه الصخب، وتراجعت فيه لغة الشعور أمام لغة المنفعة، يأتي العبرات كنسمة أدبية تذكّرنا بأن الإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما يشعر.
قراءة هذا الكتاب كانت بالنسبة لي رحلة في الوجدان أكثر منها في الأدب، رحلة جعلتني أعيد التفكير في معنى الرحمة، وفي تلك المسافة الدقيقة بين الألم والجمال.
لقد فهمت بعد انتهائي من العبرات لماذا بقي المنفلوطي حيًّا في ضمير الأدب العربي رغم مرور الزمن، لأنه كتب من داخل الإنسان، لا من خارجه. كتب بما نحاول إخفاءه نحن، وما نخجل من الاعتراف به أحيانًا: ضعفنا الإنساني، ورهافة قلوبنا، واحتياجنا لأن نُحَبّ ونُفهَم.


لا تعليق