في كلّ نوفمبر، تهبّ على الجزائر نسائم الذاكرة؛ ذاكرة الرجال الذين أضاءوا ليل الاستعمار بقبس من الإيمان والكرامة، تلك الثورة لم تكن مجرّد مواجهة مسلّحة، بل كانت إعلانًا عن ميلاد هويةٍ حرةٍ تستمد معناها من الأرض واللغة والدين والتاريخ، غير أنّ هذه الهوية التي سُقيت بدماء الشهداء، تواجه اليوم تهديدًا ناعمًا يتسلّل من بين أصابعنا عبر الشاشات الصغيرة، حيث تغدو الهوية الرقمية بديلا صامتا عن الهوية الحقيقية.

لقد صار شبابنا يعيشون في فضاءٍ افتراضي لا يعترف بالحدود ولا بالذاكرة، فتذوب الرموز الوطنية في محيطٍ من “الترندات” العابرة، ويُستبدل القدوة بالمؤثر، والنقاش بالسطحية، والانتماء بالمتابعة، وإنّ الخطر اليوم ليس في فقدان الأرض، بل في فقدان المعنى؛ حين يصبح الانتماء إلى “منصّة” أقوى من الانتماء إلى وطن.

من منظور سوسيو رقمي، يشهد مجتمعنا تحوّلا في مرجعيات الانتماء، حيث تصنع الخوارزميات تصوّراتنا عن الذات والآخر، وتعيد تشكيل وعينا الجمعي بما يخدم ثقافة الاستهلاك بدل ثقافة الرسالة، وكأنّنا نعيش ما وصفه الفيلسوف “باومان” بـ”الحداثة السائلة”، حيث لا شيء ثابت سوى التدفق المستمر للمعلومات والرموز.

بيد أن نوفمبر ليس ذكرى تُحتفل، بل بوصلة تُستعاد، فالمحافظة على الهوية اليوم لا تكون برفع الشعارات، بل بتجديد معناها في الفضاء الرقمي: بتوظيف التكنولوجيا لنشر القيم لا لطمسها، ولصون الذاكرة لا لتبديدها، وإنّ معركتنا المعاصرة هي معركة وعي، فيها البندقية فكرة، والخندق شاشة، والمجاهد قلم أو محتوى يذكّر قاطني الكوكب الرقمي بأنّ الحرية التي وُلدت في نوفمبر والتضحيات التي بذلت إذ ذاك تستحق أن يتدارسها جيل زاد.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *