يدخل كثير من أبنائنا إلى هواتفهم هذه الأيام، لا ليستريحوا، بل ليغرقوا، ويبدو الأمر كأنه تسلية بريئة، لكنه في العمق انتقال هادئ من قارئ كان يبني المعنى صفحة صفحة، إلى متصفح يلتقط شذرات ثم يتركها تتبدد، فالهجرة من القراءة إلى التصفح ليست تغير عادة فقط، بل تغير علاقة كاملة بالمعرفة، من معرفة تحتاج صبرا إلى معرفة تستهلك الانتباه كما يستهلك اللهب عود الثقاب.

وليس الكتاب هو الذي صار ثقيلا، بل الذهن هو الذي فقد النفس الطويل، فمنطق التصفح قائم على السرعة، والسرعة تلد تسرعا، والتسرع يضعف القدرة على التركيز، وحين يعتاد المراهق أن ينتقل كل ثوان من مقطع إلى آخر، يصبح النص الطويل عبئا، وتغدو الفكرة التي تحتاج تدرجا كأنها طريق وعر لا يريد سلوكه.

وقد لخص عالم الاجتماع زيغمونت باومان هذا التحول حين تحدث عن سيولة الحياة، فالمعرفة أيضا صارت سائلة، لا تمسك شكلا ولا تستقر معنى، ثم إن المنصات لا تقدم المعرفة لوجه المعرفة، بل تقدمها في هيئة تدفق، وكل تدفق له ثمن، إنه يربي في المراهق معيارا جديدا: ليس ما الذي يستحق القراءة، بل ما الذي يثير الانتباه، وهنا تذبل سلطة الكتاب بوصفه مرجعا، وتتصاعد سلطة الرائج بوصفه دليلا، وكأن الحقيقة صارت ما يتكرر لا ما يبرهن، ولعل غوستاف لوبون حين وصف قوة العدوى النفسية داخل الجموع، يصلح قوله اليوم لجموع رقمية تصنع المزاج والمعايير بضغطة اعجاب ومشاركة.

أما أنتم أيها الأولياء، فالحل ليس في الشكوى من جيل لا يقرأ، بل في صناعة بيئة تساعده على العودة، ساعة يومية بلا هواتف في البيت، ومكان للقراءة لا يجاور التلفاز ولا يجاور الضوضاء، ثم قدوة صامتة، أن يرى في يد أبيه أو أمه كتابا لا هاتفا، وأن يسمع سؤالا بسيطا كل مساء: ماذا فهمت لا ماذا شاهدت؟ فالمعرفة لا تعود بالأوامر، بل تعود حين يستعيد البيت قيمة المعنى ويمنح أبناءه وقتا يليق به.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *