لم تعد التربية اليوم حكرا على الأسرة أو المدرسة، فقد دخلت على الخطّ مؤسسات جديدة بلا جدران ولا معلمين، اسمها “الشبكات الاجتماعية”، فمنذ أن صار الهاتف الذكي صديقا دائما للصغار، تغيّر ميزان التأثير، وأضحت المنصات الرقمية تتسلّل إلى العقول بخفة ودهاء، لتغرس القيم وتعيد رسم السلوك والذوق والاهتمام.
فأصبح كثير من الأطفال يتلقون أولى دروس الحياة من شاشة لا تعرف الرحمة ولا السياق، يتعلّمون من المؤثرين أكثر مما يتعلمون من المربين، ويقتبسون نماذجهم من مشاهد مختزلة لا تمتّ إلى واقعهم بصلة، وهنا تتجلى إشكالية كبرى: من يربّي أبناءنا حقا؟ البيت الذي أنهكه السباق المعيشي؟ أم المدرسة التي أثقلتها المناهج؟ أم الشاشة التي لا تكلّ ولا تملّ؟
من منظور سوسيو تربوي، نحن أمام تحوّل في “السلطة الرمزية” التي تحدث عنها بورديو، حيث تراجع المعلم والأب، وبرز “المؤثر الرقمي” كفاعل تربوي جديد يوجّه السلوك عبر الترفيه، فالطفل اليوم لا ينتظر النصيحة، بل يتلقاها مموّهة في ضحكة، أو مغلفة في مقطع لا يتجاوز ثواني معدودة.
وقد حذّر نيل بوستمان من هذا الانزلاق حين قال: “كل تقنية تمنحنا شيئا، لكنها تسلبنا شيئا آخر في المقابل.” فالتقنية منحت أبناءنا حرية الوصول إلى المعلومة، لكنها نزعت منهم براءة التلقي البريء.
إن التربية في زمن “التيك توك” لم تعد تلقينا، بل شراكة ومسؤولية جماعية بين الأسرة والمدرسة والمجتمع، لأن الطفل الذي تربيه الشاشة اليوم، هو المواطن الذي سيحكم العالم غدا.
د. السعيد منصور
حريدة القائد نيوز
23 أكتوبر 2025


لا تعليق