قرأت مؤخرًا كتاب مآلات الخطاب المدني للدكتور إبراهيم السكران – فك الله أسره – وهو من الكتب التي تترك أثرًا عميقًا في النفس، وتدفع القارئ إلى إعادة النظر في مفاهيم النهضة والحضارة والانتماء الثقافي. الكتاب يناقش ظاهرة لافتة في واقعنا المعاصر، وهي انجذاب كثير من الشباب المسلم إلى ما يُسمى بـ”الخطاب المدني”، وهو خطاب يتبنى مفاهيم الحداثة والعقلانية والحرية، لكنه – كما يبيّن المؤلف – لا يخلو من نزعة مادية غربية متجذّرة، تُعيد تشكيل النظرة إلى الدين والتراث والهوية.

يرى السكران أن هذا الخطاب، الذي بدأ كاجتهاد ثقافي، سرعان ما تحوّل إلى سلطة فكرية تُمارس إقصاءً ناعمًا على الثوابت الإسلامية، وتدفع بالشباب إلى إعادة محاكمة التراث الإسلامي بعيونٍ مستوردة من الغرب. في هذا السياق، يُقدم الكاتب نقدًا واسعًا للرؤية التي تجعل من النموذج الغربي معيارًا للنجاح ومقياسًا للتقدم، ويكشف كيف أن هذا التبني غير الواعي يؤدي إلى تهميش الدين وتحويله إلى مجرد طقوس شكلية، بينما تُصبح القيم الغربية هي البوصلة التي تحدد الصواب والخطأ.

أحد أبرز المحاور التي يتناولها الكتاب هو “سؤال الحضارة”، وهو السؤال الذي حيّر كثيرًا من المفكرين المسلمين في العقود الأخيرة: من أين نبدأ النهضة؟ هل نلحق بالغرب لننجو؟ أم نعود إلى أصولنا لننهض؟ الدكتور السكران يُبرز أن النهضة الحقيقية لا يمكن أن تكون على حساب الهوية، وأن الانبهار بالغرب لا يجب أن يُفقدنا الثقة بتراثنا، بل يجب أن نُعيد ترتيب أولوياتنا الفكرية انطلاقًا من مرجعيتنا الإسلامية.

ويُركز الكتاب أيضًا على خطورة اعتماد مناهج نقدية غربية في التعامل مع التراث، حيث يُظهر الكاتب كيف بات بعض المنتسبين للخطاب المدني يُحاكمون النصوص الإسلامية بمنهجيات دخيلة لا تنتمي إلى البيئة العقدية واللغوية التي نشأ فيها ذلك التراث. إنها عملية تفكيك للهوية تتم تحت غطاء “العقلانية” و”التنوير”، لكنها في حقيقتها تعكس اغترابًا فكريًا عن الذات.

ما يُميز مآلات الخطاب المدني هو أنه لا يكتفي بالنقد، بل يطرح رؤية متماسكة تنطلق من الثوابت الإسلامية وتستوعب منجزات العصر دون الذوبان فيه. فهو لا يدعو إلى رفض المدنية أو الانغلاق، بل يُحذر من التبعية الفكرية ويُطالب باليقظة الحضارية التي تجعلنا نُميز بين ما نأخذه وما نتركه، بناءً على ميزان الإسلام لا ميزان الآخر.

الكتاب مليء بالاقتباسات المعمقة والتحليلات الرصينة، ومن أبلغ ما جاء فيه – على سبيل المثال – قوله:

“إنه من المؤسف أن الخطاب المدني أفرغ سؤال الحضارة من بُعده العقدي، وألبسه ثوبًا ماديًا صرفًا، حتى باتت النهضة محصورة في مؤشرات الاقتصاد والتقانة، دون أن ينظر إلى الإنسان وقيمه ومآله.”

في الختام، يمكن القول إن هذا الكتاب يُمثل دعوة صادقة لإعادة بناء الوعي، ومناشدة فكرية لكل من ظن أن الحضارة تُختزل في المظهر دون الجوهر. إنه كتاب يُعيد ترتيب الأسئلة قبل الإجابات، ويُوقظ فينا الشعور بالمسؤولية تجاه هويتنا وديننا في عالم يعيد تشكيل كل شيء من جديد. أنصح بقراءته لكل شاب يبحث عن بوصلته الفكرية وسط هذا الضجيج الحضاري المتداخل.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *